كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



رَوَى الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: «نَزَلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ وَإِنَّ بِالْمَدِينَةِ يَوْمَئِذٍ لَخَمْسَةَ أَشْرِبَةٍ، مَا فِيهَا مِنْ شَرَابِ الْعِنَبِ شَيْءٌ» وَرَوَى أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ فِي صَحِيحَيْهِمَا عَنْ أَنَسٍ قَالَ: «كُنْتُ أَسْقِي أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرَّاحِ وَأُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ وَسُهَيْلَ بْنَ بَيْضَاءَ وَنَفَرًا مِنْ أَصْحَابِهِ عِنْدَ أَبِي طَلْحَةَ (هو زَوْجُ أُمِّ أَنَسٍ) حَتَّى كَادَ الشَّرَابُ يَأْخُذُ مِنْهُمْ فَأَتَى آتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَقَالَ: أَمَا شَعَرْتُمْ أَنَّ الْخَمْرَ قَدْ حُرِّمَتْ؟ فَقَالُوا: حَتَّى نَنْظُرَ وَنَسْأَلَ، فَقَالُوا: يَا أَنَسُ اسْكُبْ مَا بَقِيَ فِي إِنَائِكَ، فَوَاللهِ مَا عَادُوا فِيهَا، وَمَا هِيَ إِلَّا التَّمْرُ وَالْبُسْرُ، وَهِيَ خَمْرُهُمْ يَوْمَئِذٍ» هَذَا لَفْظُ أَحْمَدَ، وَزَادَ أَنَسٌ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: «أَبَا دُجَانَةَ وَمُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ فِي رَهْطٍ مِنَ الْأَنْصَارِ» وَفِي رِوَايَةِ الصَّحِيحَيْنِ: أَنَّهُ كَانَ يَسْقِيهِمُ الْفَضِيخَ، وَهُوَ شَرَابُ الْبُسْرِ وَالتَّمْرِ يُفْضَخَانِ أَيْ يُشْدَخَانِ وَيُنْبَذَانِ فِي الْمَاءِ، فَإِذَا اشْتَدَّ وَاخْتَمَرَ كَانَ خَمْرًا وَكَانَ هَذَا أَكْثَرَ خَمْرِ الْمَدِينَةِ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ أَنَسٌ، وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ عَنْهُ «كُنْتُ سَاقِيَ الْقَوْمِ يَوْمَ حُرِّمَتِ الْخَمْرُ فِي بَيْتِ أَبِي طَلْحَةَ وَمَا شَرَابُهُمْ إِلَّا الْفَضِيخَ- الْبُسْرَ وَالتَّمْرَ- فَإِذَا مُنَادٍ يُنَادِي، فَقَالَ: اخْرُجْ فَانْظُرْ، فَخَرَجْتُ فَإِذَا مُنَادٍ يُنَادِي: أَلَا إِنَّ الْخَمْرَ قَدْ حُرِّمَتْ قَالَ: فَجَرَتْ فِي سِكَكِ الْمَدِينَةِ، فَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ: اخْرُجْ فَأَهْرِقْهَا، فَهَرَقْتُهَا» الْحَدِيثَ.
نَعَمْ قَدْ رَوَى النَّسَائِيُّ بِسَنَدٍ رِجَالُهُ ثِقَاتٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا «حُرِّمَتِ الْخَمْرُ قَلِيلُهَا وَكَثِيرُهَا وَالْمُسْكِرُ مِنْ كُلِّ شَرَابٍ» وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي وَصْلِهِ وَانْقِطَاعِهِ وَفِي رَفْعِهِ وَوَقْفِهِ، وَبَيَّنَ النَّسَائِيُّ عِلَلَهُ وَمَنْ خَالَفَ فِيهِ، وَمَعْنَاهُ عَلَى تَقْدِيرِ صِحَّتِهِ وَالِاحْتِجَاجِ بِهِ أَنَّ الْأَشْرِبَةَ الَّتِي شَأْنُهَا أَنْ يُسْكِرَ قَلِيلُهَا وَكَثِيرُهَا مُحَرَّمَةٌ لِذَاتِهَا بِالنَّصِّ، سَوَاءٌ كَانَتْ مِنَ الْعِنَبِ أَوِ الزَّبِيبِ أَوِ التَّمْرِ أَوِ الْبُسْرِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، وَأَمَّا سَائِرُ الْأَشْرِبَةِ الَّتِي لَيْسَ مِنْ شَأْنِهَا الْإِسْكَارُ كَالنَّبِيذِ الَّذِي لَمْ يَشْتَدَّ وَلَمْ يُخَمَّرْ، وَهُوَ مَا يُنْبَذُ مِنْ تَمْرٍ أَوْ زَبِيبٍ أَوْ غَيْرِهِمَا فِي الْمَاءِ حَتَّى يَنْضَحَ وَيَحْلُوَ مَاؤُهُ فَشُرْبُهُ حَلَالٌ مَا لَمْ يَصِلْ إِلَى حَدِّ الْإِسْكَارِ.
وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْأَنْبِذَةَ يُسْرِعُ إِلَيْهَا الِاخْتِمَارُ فِي بَعْضِ الْبِلَادِ كَالْحَارَّةِ وَبَعْضِ الْأَوَانِي: كَالْقَرْعِ وَالْمُزَفَّتِ، وَأَنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَسْكَرُ بِهَا عِنْدَ أَدْنَى تَغَيُّرٍ يَعْرِضُ لَهَا، أَوْ إِذَا أَكْثَرَ مِنْهَا وَإِنْ لَمْ تَخْتَمِرْ، وَلِأَجْلِ هَذَا اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي النَّبِيذِ، فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا صَارَ يُسْكِرُ الْكَثِيرُ مِنْهُ فَشُرْبُ الْقَلِيلِ مِنْهُ يَكُونُ حَرَامًا لِسَدِّ ذَرِيعَةِ السُّكْرِ، وَهُوَ إِنَّمَا يُسْكِرُ كَثِيرُهُ إِذَا تَغَيَّرَ وَلَوْ بِحُمُوضَةٍ قَلِيلَةٍ، وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّهُ لَا يَحْرُمُ مِنْهُ حِينَئِذٍ إِلَّا الْمِقْدَارُ الْمُسْكِرُ، لِأَنَّهُ لَا يُسَمَّى خَمْرًا فَيَتَنَاوَلُهُ النَّصُّ، فَإِذَا كَانَ مَا يُشْرَبُ مِنْهُ لَمْ يُسْكِرْ فَلَا وَجْهَ لِقِيَاسِهِ عَلَى الْخَمْرِ، فَإِنْ صَارَ بِحَيْثُ يُسْكِرُ فَهُوَ خَمْرٌ لُغَةً وَشَرْعًا، كَمَا هُوَ الْمُتَبَادَرُ مِنْ فَهْمِ الصَّحَابَةِ لِلْآيَةِ، وَمِنْ تَعْلِيلِ عُمَرَ فِي خُطْبَتِهِ لِتَسْمِيَةِ الْخَمْرِ بِأَنَّهَا مَا خَامَرَ الْعَقْلَ، أَوْ شَرْعًا فَقَطْ وَدَلَالَةُ الْحَقِيقَةِ الشَّرْعِيَّةِ أَقْوَى مِنْ دَلَالَةِ الْحَقِيقَةِ اللُّغَوِيَّةِ فِي الْأَحْكَامِ.
وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ وَكُلُّ خَمْرٍ حَرَامٌ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ، وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ وَالدَّارَقُطْنِيِّ «كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ وَكُلُّ خَمْرٍ حَرَامٌ».
وَقَدْ غَلِطَ ابْنُ سِيدَهْ فِي اقْتِصَارِهِ عَلَى قَوْلِ صَاحِبِ الْعَيْنِ: الْخَمْرُ عَصِيرُ الْعِنَبِ إِذَا أَسْكَرَ، وَلَعَلَّ سَبَبَ ذَلِكَ أَنَّ خَمْرَ الْعِنَبِ كَانَتْ كَثِيرَةً فِي زَمَنِ تَدْوِينِ اللُّغَةِ، فَظَنَّ بَعْضُهُمْ أَنَّ الْإِطْلَاقَ يَنْصَرِفُ إِلَيْهَا لِكَثْرَتِهَا وَجَوْدَتِهَا، وَنَقْلُ الصَّحِيحَيْنِ وَالْمَسَانِيدِ وَالسُّنَنِ بَيَانَ مَعْنَى الْخَمْرِ عَنِ الصَّحَابَةِ أَصَحُّ مِنْ نَقْلِ جَمِيعِ اللُّغَوِيِّينَ لِلُّغَةِ.
وَلَمَّا لَمْ يَجِدْ مَنِ اطَّلَعَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ عَلَى الْأَحَادِيثِ السَّابِقَةِ وَنَحْوِهَا تَفَصِّيًا مِنْهَا لِلِاتِّفَاقِ عَلَى صِحَّةِ الْكَثِيرِ مِنْهَا حَمَلُوا إِطْلَاقَ لِفَظِ الْخَمْرِ فِيهَا عَلَى الْمُسْكِرِ مِنْ غَيْرِ الْعِنَبِ عَلَى مَجَازِ التَّشْبِيهِ كَمَا فِي فَتْحِ الْقَدِيرِ، وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِمَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: لَقَدْ حُرِّمَتِ الْخَمْرُ وَمَا بِالْمَدِينَةِ مِنْهَا شَيْءٌ، وَهَذِهِ الْعِبَارَةُ مُبْهَمَةٌ لَا يُعْرَفُ لِمَنْ قَالَهَا وَبِأَيِّ مُنَاسَبَةٍ قَالَهَا، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ بَعْضُ النَّاسِ قَدْ ذَكَرَ خَمْرَ الْعِنَبِ، فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ مَا مَعْنَاهُ: إِنَّ الْخَمْرَ لَمَّا حُرِّمَتْ لَمْ يَكُنْ يُوجَدُ فِي الْمَدِينَةِ شَيْءٌ مِنْ خَمْرِ الْعِنَبِ، وَإِنَّمَا كَانَتْ خُمُورُ أَهْلِهَا مِنَ التَّمْرِ وَالْبُسْرِ فِي الْغَالِبِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى كَلَامِهِ أَنَّ اللهَ حَرَّمَ الْخَمْرَ وَلِأَجْلِ هَذَا لَا يُوجَدُ فِي الْمَدِينَةِ مِنْهَا شَيْءٌ بِهَذَا يُجْمَعُ بَيْنَ سَائِرِ الْأَحَادِيثِ وَالْآثَارِ الَّتِي تَقَدَّمَ بَعْضُهَا حَتَّى عَنْهُ وَعَنْ أَبِيهِ وَإِلَّا كَانَتْ مُتَعَارِضَةً، وَلَمَّا كَانَتِ الْعِبَارَةُ مُحْتَمِلَةً لِعِدَّةِ وُجُوهٍ سَقَطَ الِاسْتِدْلَالُ بِهَا عَلَى مَا قَالُوهُ وَلَا يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَا عَارَضَهَا بِحَمْلِ مَا خَالَفَهَا عَلَى الْمَجَازِ، لِأَنَّ تِلْكَ الْعِبَارَاتِ تَأْبَى أَنْ تَكُونَ تَشْبِيهًا كَقَوْلِ عُمَرَ فِي خُطْبَتِهِ: «وَنَزَلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ وَهِيَ مِنْ خَمْسَةٍ الْعِنَبِ وَالتَّمْرِ وَالْعَسَلِ وَالْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَالْخَمْرُ مَا خَامَرَ الْعَقْلَ» فَهَلْ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: نَزَلَ تَحْرِيمُ خَمْرَةِ الْعِنَبِ وَهِيَ مِنْ خَمْسَةِ أَشْيَاءَ إِلَخْ؟ أَمْ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: نَزَلَ تَحْرِيمُ مَا يُشْبِهُ الْخَمْرَ فِي الْإِسْكَارِ وَهُوَ مِنْ خَمْسَةِ أَشْيَاءَ: الْعِنَبِ وَالتَّمْرِ؟ إِلَّا أَنَّ هَذَا لَا يَقُولُهُ أَحَدٌ يَفْهَمُ الْعَرَبِيَّةَ وَإِنْ كَانَ يُجِيزُ الْجَمْعَ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ وَهُوَ مَا لَا يُجِيزُهُ الْحَنَفِيَّةُ.
أَطَلْنَا هَذِهِ الْإِطَالَةَ فِي بَيَانِ حَقِيقَةِ الْخَمْرِ لِأَنَّهُ قَدْ ظَهَرَ فِي النَّاسِ مِنْ عَهْدٍ بَعِيدٍ مِصْدَاقُ مَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ مِنِ اسْتِحْلَالِ أُنَاسٍ لِشُرْبِ الْخَمْرِ بِتَسْمِيَتِهَا بِغَيْرِ اسْمِهَا، وَقَدِ اخْتَرَعَ النَّاسُ بَعْدَ زَمَنِ التَّنْزِيلِ أَنْوَاعًا كَثِيرَةً مِنَ الْخُمُورِ أَشَدَّ مِنْ خَمْرِ الْعِنَبِ ضَرَرًا فِي الْجِسْمِ وَالْعَقْلِ بِاتِّفَاقِ الْأَطِبَّاءِ، وَأَشَدَّ إِيقَاعًا فِي الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ، وَصَدًّا عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ، وَالْقَوْلُ بِأَنَّهُ لَا يَحْرُمُ مِنْهَا قَطْعًا إِلَّا مَا كَانَ مِنْ عَصِيرِ الْعِنَبِ وَأَنَّهُ إِنَّمَا يَحْرُمُ الْقَدْرُ الْمُسْكِرُ مِنْهُ فَقَطْ يُجَرِّئُ النَّاسَ عَلَى شُرْبِ الْقَلِيلِ مِنْ تِلْكَ السُّمُومِ الْمُهْلِكَةِ، وَالْقَلِيلُ يَدْعُو إِلَى الْكَثِيرِ، فَالْإِدْمَانِ فَالْإِهْلَاكِ، فَفِي هَذَا الْقَوْلِ مَفْسَدَةٌ عَظِيمَةٌ، وَلَيْسَ فِي تَضْعِيفِهِ وَتَرْجِيحِ قَوْلِ جُمْهُورِ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ عَلَيْهِ إِلَّا الْمَصْلَحَةُ الرَّاجِحَةُ وَسَدُّ ذَرَائِعِ شُرُورٍ كَثِيرَةٍ.
وَأَمَّا الْمَيْسِرُ فَهُوَ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ الْقِمَارُ بِالْقِدَاحِ فِي كُلِّ شَيْءٍ كَمَا نَقَلَ لِسَانُ الْعَرَبِ عَنْ عَطَاءٍ ثُمَّ غَلَبَ فِي كُلِّ مُقَامَرَةٍ، وَقَدْ بَيَّنَّا الْأَقْوَالَ فِي اشْتِقَاقِهِ فِي تَفْسِيرِ آيَةِ الْبَقَرَةِ (ص 258 وَمَا بَعْدَهَا ج2ط الْهَيْئَةِ) وَبَيَّنَّا هُنَالِكَ مَعْنَى الْقِدَاحِ الَّتِي كَانُوا يَتَقَامَرُونَ بِهَا وَهِيَ الْأَزْلَامُ وَالْأَقْلَامُ وَالسِّهَامُ، وَلِذَلِكَ عُدْنَا إِلَى بَيَانِهَا وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْقِدَاحِ الْعَشْرِ الَّتِي يَتَقَامَرُونَ بِهَا وَبَيْنَ مَا كَانُوا يَسْتَقْسِمُونَ بِهِ لِلتَّفَاؤُلِ وَالتَّشَاؤُمِ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ الثَّالِثَةِ مِنْ سُورَةِ الْمَائِدَةِ (ص 122 وَمَا بَعْدَهَا ج6ط الْهَيْئَةِ).
كُلُّ قِمَارٍ مَيْسِرٌ مُحَرَّمٌ بِالنَّصِّ إِلَّا مَا أَبَاحَهُ الشَّرْعُ مِنَ الْمُرَاهَنَةِ فِي السِّبَاقِ وَالرِّمَايَةِ، وَقَدْ وَرَدَ عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ أَنَّهُ قَالَ: الشِّطْرَنْجُ مِنَ الْمَيْسِرِ رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، ورُوِيَ أَيْضًا عَنْ عَطَاءٍ وَمُجَاهِدٍ وَطَاوُسٍ أَوِ اثْنَيْنِ مِنْهُمْ قَالُوا: كُلُّ شَيْءٍ مِنَ الْقِمَارِ فَهُوَ مِنَ الْمَيْسِرِ حَتَّى لَعِبُ الصِّبْيَانِ بِالْجَوْزِ، وَرُوِيَ عَنْ رِشْدِينَ بْنِ سَعْدٍ وَضَمْرَةَ بْنِ حَبِيبٍ قَالَا: «حَتَّى الْكِعَابُ وَالْجَوْزُ وَالْبَيْضُ الَّتِي تَلْعَبُ بِهَا الصِّبْيَانُ» وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ: الْمَيْسِرُ هُوَ الْقِمَارُ وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: الْمَيْسِرُ هُوَ الْقِمَارُ، كَانُوا يَتَقَامَرُونَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ إِلَى مَجِيءِ الْإِسْلَامِ فَنَهَاهُمُ اللهُ عَنْ هَذِهِ الْأَخْلَاقِ الْقَبِيحَةِ، وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ: كَانَ مَيْسِرُ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ بَيْعَ اللَّحْمِ بِالشَّاةِ وَالشَّاتَيْنِ (أَيْ مِنْ مَيْسِرِهِمْ) ذَكَرَ ذَلِكَ الْحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ.
ثُمَّ ذَكَرَ حَدِيثَ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ عِنْدَ ابْنِ أَبِي حَاتِمٍ «اجْتَنِبُوا هَذِهِ الْكِعَابَ الْمَرْسُومَةَ الَّتِي يُزْجَرُ بِهَا زَجْرًا فَإِنَّهَا مِنَ الْمَيْسِرِ» وَقَالَ حَدِيثٌ غَرِيبٌ وَفَسَّرَ الْكِعَابَ بِالنَّرْدِ، وَأَقُولُ:
الْحَدِيثُ ضَعِيفٌ وَهُوَ مِنْ طَرِيقِ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاتِكَةِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ يَزِيدَ، وَعَلِيٌّ هَذَا ضَعِيفٌ وَضَعَّفُوا عُثْمَانَ فِي رِوَايَتِهِ عَنْهُ.
ثُمَّ ذَكَرَ حَدِيثَ بُرَيْدَةَ بْنِ الْحَصِيبِ الْأَسْلَمِيِّ «مَنْ لَعِبَ بِالنَّرْدَشِيرِ فَكَأَنَّمَا صَبَغَ يَدَهُ فِي لَحْمِ خِنْزِيرٍ وَدَمِهِ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَلَعَلَّ الْحِكْمَةَ فِي تَشْبِيهِ اللَّعِبِ بِهِ بِمَا ذُكِرَ أَنَّ الْمُقَامَرَةَ بِهِ كَالْمُقَامَرَةِ عَلَى لَحْمِ الْخِنْزِيرِ لَا عَلَى لَحْمِ الْأَنْعَامِ الَّذِي كَانَتِ الْعَرَبُ تُقَامِرُ عَلَيْهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَأَيَّدَ هَذَا بِحَدِيثِ أَبِي مُوسَى عِنْدَ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ وَأَبِي دَاوُدَ وَابْنِ مَاجَهْ «مَنْ لَعِبَ بِالنَّرْدِ فَقَدْ عَصَى اللهَ وَرَسُولَهُ» وَقَدْ رُوِيَ مَرْفُوعًا وَمَوْقُوفًا عَلَى أَبِي مُوسَى مِنْ قَوْلِهِ.
ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ قَالَ فِي الشِّطْرَنْجِ إِنَّهُ مِنَ النَّرْدِ وَأَنَّ عَلِيًّا قَالَ: إِنَّهُ مِنَ الْمَيْسِرِ قَالَ: وَنَصَّ عَلَى تَحْرِيمِهِ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَدُ وَكَرِهَهُ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُمُ اللهُ تَعَالَى:
أَقُولُ: إِنَّ مَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ وَهُوَ الَّذِي بَيَّنَ لَنَا وَجْهَ مَا وَرَدَ فِي النَّرْدِ (وَهُوَ الْمُسَمَّى الْآنَ بِالطَّاوِلَةِ) مِنَ الْحَدِيثِ، وَهُوَ أَنَّهُ كَانَ مِنْ لَعِبِ الْقِمَارِ، وَيُؤَيِّدُهُ التَّشْبِيهُ الَّذِي بَيَّنَّا حِكْمَتَهُ فِي حَدِيثِ مُسْلِمٍ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَنْ حَرَّمَ الشِّطْرَنْجَ حَرَّمَهُ مِنْ حَيْثُ كَوْنِهِ قِمَارًا، وَمَنْ كَرِهَهُ لِكَوْنِهِ مَدْعَاةَ الْغَفْلَةِ عَنْ ذِكْرِ اللهِ، لِأَنَّ أَكْثَرَ لَاعِبِيهِ يُفْرِطُونَ فِي الْإِكْثَارِ مِنْهُ، وَسَنَزِيدُ الْمَسْأَلَةَ بَيَانًا فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ التَّالِيَةِ.
وَأَمَّا الْأَنْصَابُ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَالْحَسَنُ وَغَيْرُ وَاحِدٍ: هِيَ حِجَارَةٌ كَانُوا يَذْبَحُونَ قَرَابِينَهُمْ عِنْدَهَا، ذَكَرَهُ ابْنُ كَثِيرٍ أَيْضًا، وَرَوَى أَنَّهُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَهَا وَيَتَقَرَّبُونَ إِلَيْهَا وَتَحْقِيقُ ذَلِكَ تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ {وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ} فِي أَوَّلِ السُّورَةِ (ص121، 123 ج6ط الْهَيْئَةِ).
وَأَمَّا الْأَزْلَامُ فَهِيَ قِدَاحٌ أَيْ قِطَعٌ رَقِيقَةٌ مِنَ الْخَشَبِ بِهَيْئَةِ السِّهَامِ كَانُوا يَسْتَقْسِمُونَ بِهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ لِأَجْلِ التَّفَاؤُلِ أَوِ التَّشَاؤُمِ، وَقَدْ شَرَحْنَا مَعْنَاهَا وَطَرِيقَةَ الِاسْتِقْسَامِ بِهَا فِي أَوَائِلِ السُّورَةِ (ص122 127 ج6ط الْهَيْئَةِ) وَبَيَّنَّا الْفَرْقَ بَيْنَ خُرَافَةِ الِاسْتِقْسَامِ وَسُنَّةِ الِاسْتِخَارَةِ فَيُرَاجَعُ هُنَالِكَ.
وَأَمَّا الرِّجْسُ فَهُوَ الْمُسْتَقْذَرُ حِسًّا أَوْ مَعْنًى، وَقَالَ الزَّجَّاجُ: الرِّجْسُ فِي اللُّغَةِ اسْمٌ لِكُلِّ مَا اسْتُقْذِرَ مِنْ عَمَلٍ، فَبَالَغَ اللهُ فِي ذَمِّ الْأَشْيَاءِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْآيَةِ فَسَمَّاهَا رِجْسًا أَقُولُ: وَقَدْ ذُكِرَ فِي تِسْعِ آيَاتٍ مِنَ الْقُرْآنِ لَيْسَ فِيهَا مَوْضِعٌ يَظْهَرُ فِيهَا مَعْنَى الْقَذَارَةِ الْحِسِّيَّةِ إِلَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ} (6: 145) قَوْلُهُ: {فَإِنَّهُ رِجْسٌ} عَائِدٌ إِلَى جَمِيعِ مَا ذُكِرَ، أَيْ فَإِنَّ ذَلِكَ أَوْ مَا ذُكِرَ رِجْسٌ، وَمِثْلُهُ: {وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ} (36: 34، 35)؛ أَيْ مِنْ ثَمَرِ ذَلِكَ أَوْ مَا ذُكِرَ، وَاسْتَشْهَدَ الزَّمَخْشَرِيُّ لِهَذَا الْأَخِيرِ بِقَوْلِ رُؤْبَةَ:
فِيها خُطُوطٌ مِنْ سَوَادٍ وَبَلَقْ ** كَأَنَّهُ فِي الْجِلْدِ تَوْلِيعُ الْبَهَقْ.

وَذُكِرَ أَنَّ رُؤْبَةَ سُئِلَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: أَرَدْتُ كَأَنَّ ذَلِكَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِالرِّجْسِ أَنَّهُ قَذَرٌ مَعْنَوِيٌّ مِنْ حَيْثُ كَوْنِهِ ضَارًّا وَمُحْتَقَرًا تَعَافُهُ الْأَنْفُسُ، وَقَدْ فَسَّرَ بَعْضُهُمُ الرِّجْسَ فِي الْآيَةِ الَّتِي نُفَسِّرُهَا بِالْمَأْثَمِ وَهُوَ مَا كَانَ ضَارًّا، وَقَدْ بَيَّنَّا ضَرَرَ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ فِي تَفْسِيرِ آيَةِ الْبَقَرَةِ مِنْ عِدَّةِ وُجُوهٍ.
وَقَالَ الرَّاغِبُ: الرِّجْسُ الشَّيْءُ الْقَذِرُ، يُقَالُ: رَجُلٌ رَجِسٌ، وَرِجَالٌ أَرْجَاسٌ، قَالَ تَعَالَى: {رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} وَالرِّجْسُ يَكُونُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ: إِمَّا مِنْ حَيْثُ الطَّبْعِ، وَإِمَّا مِنْ جِهَةِ الْعَقْلِ، وَإِمَّا مِنْ جِهَةِ الشَّرْعِ، وَإِمَّا مِنْ كُلِّ ذَلِكَ كَالْمَيْتَةِ، فَإِنَّ الْمَيْتَةَ تَعَافُ طَبْعًا وَعَقْلًا وَشَرْعًا، وَالرِّجْسُ مِنْ جِهَةِ الشَّرْعِ الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ، وَقِيلَ: إِنَّ ذَلِكَ رِجْسٌ مِنْ جِهَةِ الْعَقْلِ، وَعَلَى ذَلِكَ نَبَّهَ بِقَوْلِهِ: {وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} (2: 219) لِأَنَّ كُلَّ مَا يُوَفَّى إِثْمُهُ عَلَى نَفْعِهِ فَالْعَقْلُ يَقْتَضِي تَجَنُّبَهُ، وَجَعَلَ الْكَافِرِينَ رِجْسًا مِنْ حَيْثُ إِنَّ الشِّرْكَ بِالْعَقْلِ أَقْبَحُ الْأَشْيَاءِ، قَالَ تَعَالَى: {وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ} (9: 125) إِلَخْ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} نَصٌّ فِي كَوْنِ الرِّجْسِ مَعْنَوِيًّا، وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى جَمِيعِ مَا ذُكِرَ مِنَ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَالْأَنْصَابِ وَالْأَزْلَامِ، كَمَا قَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ} (22: 30) وَكَانَتِ الْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ مِنْ لَوَازِمِ الْأَوْثَانِ وَأَمَّا رِجْسُ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ فَبَيَانُهُ فِي الْآيَةِ التَّالِيَةِ.
وَقَدِ اسْتَدَلَّ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ بِالْآيَةِ عَلَى كَوْنِ الْخَمْرِ نَجِسَةَ الْعَيْنِ فَتَكَلَّفُوا كُلَّ التَّكَلُّفِ إِذْ زَعَمُوا أَنَّ {رِجْسٌ} خَبَرٌ عَنِ الْخَمْرِ وَخَبَرُ مَا عُطِفَ عَلَيْهَا مَحْذُوفٌ، وَلَوْ سَلِمَ لَهُمْ هَذَا لَمَا كَانَ مُفِيدًا لِنَجَاسَةِ الْخَمْرِ نَجَاسَةً حِسِّيَّةً، فَإِنَّ نَجِسَ الْعَيْنِ مَا كَانَ شَدِيدَ الْقَذَارَةِ كَالْبَوْلِ وَالْغَائِطِ، وَالْخَمْرُ لَيْسَتْ قَذِرَةَ الْعَيْنِ، وَالصَّوَابُ أَنَّ {رِجْسٌ} خَبَرٌ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَالْأَنْصَابِ وَالْأَزْلَامِ كَمَا قُلْنَا تَبَعًا لِلْجُمْهُورِ، لِأَنَّ هَذَا هُوَ الْمُتَبَادَرُ إِلَى الْفَهْمِ مِنَ الْعِبَارَةِ، لِأَنَّهُ الْأَصْلُ فِي الْإِخْبَارِ عَنِ الْمُبْتَدَأِ وَمَا عُطِفَ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ فِي الْأَنْصَابِ وَالْأَزْلَامِ يُوَافِقُ قَوْلَهُ تَعَالَى: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ} وَأَمَّا إِفْرَادُهُ مَعَ كَوْنِهِ خَبَرًا عَنْ مُتَعَدِّدٍ فَلِأَنَّهُ مَصْدَرٌ يَسْتَوِي فِيهِ الْقَلِيلُ وَالْكَثِيرُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} (9: 28) أَوْ لِأَنَّ فِي الْكَلَامِ مُضَافًا تَقْدِيرُهُ أَنَّ تَعَاطِيَ مَا ذَكَرَهُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} تَفْسِيرٌ وَإِيضَاحٌ لِكَوْنِ مَا ذَكَرَ رِجْسًا، وَمَعْنَى كَوْنِهَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ أَنَّهَا مِنَ الْأَعْمَالِ الَّتِي زَيَّنَ لِأَعْدَائِهِ بَنِي آدَمَ ابْتِدَاعَهَا وَإِيجَادَهَا، ثُمَّ هُوَ يُوَسْوِسُ لَهُمْ بِأَنْ يَعْكُفُوا عَلَيْهَا، وَيُزَيِّنُهَا لَهُمْ لِمَا فِيهَا مِنْ شِدَّةِ الضَّرَرِ بِهِمْ.